الأهمية المحورية للخدمات اللوجستية المستدامة
وصلت معدلات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى مستويات خطيرة؛ ورغم توثيق العديد من العوامل المُسببة لهذه الزيادة، من المرجح أن نمو قطاع التجارة الإلكترونية قد أسهم في زيادة هذه التأثيرات البيئية الضارة. وبهذا الإطار، تهدف الخدمات اللوجستية المستدامة إلى تقليل المخاطر البيئية الناتجة عن الأنشطة الصناعية والتجارية، من خلال تغيير آلية عمل سلاسل الإمداد حول العالم.
ما هي الخدمات اللوجستية المستدامة؟
وأشار تقرير الاستدامة وإنتاجية الموارد الصادر عن شركة ماكنزي إلى توقعات بارتفاع التعداد السكاني العالمي بواقع 1.5 مليار نسمة بحلول عام 2035. ومن المرجّح أن تقود هذه الزيادة إلى ارتفاع حاد في الطلب على خدمات التجارة الإلكترونية حول العالم.
وتتمثل التحديات التي تواجه قطاع الخدمات اللوجستية العالمي في إيجاد طرق لتقليل الأثر البيئي لعمليات توصيل البضائع لملايين المستهلكين حول العالم. ويتطلب هذا الأمر تعزيز كفاءة سلاسل الإمداد الخاصة بقطاع التجارة الإلكترونية لتمكين تقديم الخدمات وفق أفضل الوسائل الصديقة للبيئة، وهو ما يمثل المفهوم الأساسي للخدما ت اللوجستية المستدامة.
ما هي أهمية الخدمات اللوجستية المستدامة؟
حقق قطاع التجارة الإلكترونية نمواً استثنائياً في الفترة الماضية، تلته زيادة غير مسبوقة في عمليات شراء المنتجات عبر الإنترنت وتوصيلها إلى مختلف أنحاء العالم بفعل أزمة كوفيد-19، وهو ما أخضع عمليات الخدمات اللوجستية وسلاسل الإمداد لمستويات غير مسبوقة من الفحص والتدقيق. وتبحث شركات التجارة الإلكترونية اليوم عن طرقٍ لتقليص الأثر البيئي لعملياتها، استجابة للتحديات التالية:
- سياسات الاستدامة التي تقرها الحكومات
- نمو الوعي لدى المستهلكين بأهمية حرص الشركات على تقليل انبعاثاتها الكربونية
- الضغوطات المؤسسية الداخلية الرامية إلى تطوير استراتيجيات إدارة مستدامة للخدمات اللوجستية وعمليات سلاسل الإمداد
سلبيات الخدمات اللوجستية المستدامة
تجسّد الكلفة المرتفعة العقبة الأساسية التي تواجه الشركات الراغبة باعتماد الخدمات اللوجستية الصديقة للبيئة، إذ تتطلب الكثير من المبادرات الخضراء تخصيص استثمارات ضخمة تفوق غالباً ميزانيات شركات التجارة الإلكترونية الأصغر حجماً، وهو ما يدفع الكثير من الشركات نحو التفكير بقدرتها على تلبية تكاليف العمليات الصديقة للبيئة. والإجابة الأبسط هنا هي أنه يتوجب على الشركات اعتماد العمليات الصديقة للبيئة إن كانت ترغب بالمحافظة على قاعدة عملائها على المدى الطويل.
وهناك العديد من الطرق التي تتيح للشركات الانتقال نحو العمليات والإجراءات اللوجستية الصديقة للبيئة وبتكلفة معقولة. وسوف نستعرض لاحقاً في هذه المقالة بعضاً من الحلول التي توظفها الشركات لتقليل آثارها البيئية وتعزيز مزايا سلاسل الإمداد من الناحية البيئية.
الكلفة البيئية لتسريع عمليات سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية
يتعين على خدمات التجارة الإلكترونية أن تتحلى بالسرعة والسهولة والملاءمة لتلبي توقعات ومتطلبات المستهلكين. إلا أن السهولة التي تتيح للمستهلكين إيجاد المنتجات عبر الإنترنت وتوصيلها إلى منازلهم تفرض أيضاً الكثير من التكاليف.
وبهذا الصدد، أشارت شركة eConsultancy إلى أنه يتم شحن 164 مليار طرد في الولايات المتحدة الأمريكية سنوياً. وعادة ما تقوم الشركات حول العالم بتغليف وشحن المنتجات بصورة منفصلة، الأمر الذي يقود إلى استخدام مُبالغ به لمواد التغليف. لذا ما لبثت هذه المنهجية المُسرفة أن تحولت إلى مشكلة بيئية متنامية لا تقل أهمية وخطورة عن مشكلة تلوث المحيطات بالمواد البلاستيكية.
ومن ناحية أخرى، أضحى المستهلكون أكثر وعياً بالتأثيرات البيئية لسلوكياتهم الاستهلاكية. وأشار استبيان صادر عن Nielsen أن 73% من المستهلكين يغيّرون عاداتهم الشرائية بهدف تقليل آثارهم على البيئة.
كما أوضح استبيان صادر عن شركة Doddle Pulse أن 56% من المستهلكين ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً مستعدون لشراء المنتجات من شركات منافسة تُقدم خيارات توصيل أفضل من ناحية الاستدامة. ويمثّل هذا الواقع تحذيراً واضحاً للشركات غير الراغبة بالتغيير حول ضرورة تحسين مزايا الاستدامة لديها تفادياً لخسارة عملائها.
الاستدامة كاستراتيجية متبعة
تُساعد الإحصاءات المذكورة سابقاً في تفسير الأهمية المتنامية للاستدامة بوصفها جزءاً رئيسياً من استراتيجيات شركات التجارة الإلكترونية. فالمستهلكون يحرصون على حماية الكوكب والمحافظة عليه للأجيال القادمة، وهم مستعدون لتغيير عاداتهم الشرائية لتحقيق هذا الهدف.
ومن جانبها، تقود الحكومات جهود التغيير عبر طرح قوانين بيئية مُصممة لتعزيز استدامة الخدمات اللوجستية. وبالتالي فإن الشركات التي تفشل في تحقيق الأهداف المطلوبة ستواجه غرامات وعقوبات رادعة، وقد تصل إلى دعاوى قانونية جنائية ومدنية.
وتتشدد هذه القوانين الرادعة لتظهر أهميتها بالتوازي مع مدى خطورة الكارثة البيئية التي ستحل بكوكبنا في حال لم نتمكن من إنجاز التغيير المطلوب.
خطوات عملية لتقليل الأثر البيئي
تولي الكثير من شركات التجارة الإلكترونية اهتماماً كبيراً بآليات نقل وتوصيل المنتجات إلى العملاء في مكاتبهم أو منازلهم. ويضم القطاع الكثير من خيارات الخدمات اللوجستية الصديقة للبيئة والتي تلائم مختلف شركات التجارة الإلكترونية. وتشمل هذه الخيارات:
- استخدام مواد تغليف أكثر استدامة
- حلول الشحن الفعّالة
- خيارات النقل الصديقة للبيئة
- التحول الرقمي
والآن لنستعرض كل من هذه الحلول على حدة:
حلول مواد التغليف المستدامة
كشف استبيان صادر عن شركة Nosto أن 75% من المستهلكين يريدون أن تعمل جميع الشركات على تخفيض استخدامها من مواد التغليف. ومع ذلك، لا تقتصر حلول التغليف الصديقة للبيئة على تقليل حجم المواد المستخدمة في التغليف، بل تشمل أيضاً تغيير طبيعة تلك المواد. وأصبح من المتعارف عليه استخدام مواد تغليف مصنوعة من مواد مُعاد تدويرها بالكامل. وبجانب ذلك، يجري الاستغناء تدريجياً عن المواد القديمة غير القابلة لإعادة التدوير، مثل الستايروفوم لصالح مواد أخرى كألواح الكرتون المتموجة، والتي تستخدم لحماية المنتجات خلال الشحن.
عمليات شحن أكثر كفاءة
تتضمن سلسلة الإمداد مجموعة من العمليات التي تقود إلى زيادة إضافية في انبعاثات الكربون. ومع ذلك، تُعتبر مرحلة التوصيل للميل الأخير المسبب الأكبر للمشكلات البيئية، وهو ما أكسبها أهمية محورية ضمن جهود تطوير الخدمات اللوجستية المستدامة.
تحسين مسارات الشحن البري: يمكن استخدام الحلول التكنولوجية لتوصيل المنتجات بالاعتماد على الطريق الأفضل من ناحية استهلاك الوقود. وتتضمن هذه الحلول معطيات حول طبيعة الطرق سواء كانت سهلية أو جبلية، حيث يفيد ذلك في تحديد المسارات على الطرق السهلية التي لا تتضمن الكثير من المرتفعات التي يتعين على الشاحنات صعودها، وبالتالي تقليل معدلات الانبعاثات عبر توفير الطاقة الإضافية التي تستهلكها الشاحنات ومركبات التوصيل لصعود المرتفعات.
تقنيات المطابقة الرقمية: أفاد المعهد الأمريكي لبحوث النقل بأن حوالي 20% من المسافات التي تقطعها الشاحنات في الولايات المتحدة لا تقدّم أي إيرادات. ويمكن استخدام تقنيات المطابقة الرقمية لتقليل أعداد هذه الرحلات، المعروفة باسم "الأميال الفارغة"، من خلال مطابقة سعة الشحن الخاصة بالمركبات مع الشحنات الأقرب المتوافرة للنقل. وتشمل مزايا هذه المنهجية:
- تخفيض أعداد الشاحنات الفارغة
- استغلال أفضل للمساحة
- وقت انتظار أقل
- عمليات شحن أكثر كفاءة
- تقليل الازدحام على الطرق
خيارات النقل الصديقة للبيئة
من المتوقع أن يستمر الاعتماد على الشحن البري لإنجاز خدمة التوصيل للميل الأخير خلال المستقبل المنظور. إلا أننا نملك لمحة عامة حول التوجهات المستقبلية. فقد حققت روبوتات التوصيل ذاتية التشغيل رواجاً في مجال توصيل المأكولات. وسيحمل لنا المستقبل الإجابة حول إمكانية استخدام هذه الروبوتات بصورة آمنة ومنطقية في توصيل المنتجات على نطاق أوسع.
أما الآن، فتهدف الخدمات اللوجستية المستدامة إلى تحديد المركبات ذات معدلات الانبعاث الأكبر، واستبدالها بخيارات أفضل من الناحية البيئية.
كما يعمل مصنعو الشاحنات والمحركات على اختبار مجموعة من التصاميم والمحركات الجديدة الخاصة بالشاحنات. ويهدف قسم آخر منهم إلى الاستغناء عن أساطيل المركبات المعتمدة على محركات الوقود واعتماد مركبات كهربائية بالكامل بهدف تقليل انبعاثات الغازات الضارة.
وعلى سبيل المثال، اعتمدت شركة أجيليتي محاور عجلات ذكية وسهلة التركيب خاصة بالشاحنات، وتعتمد على تقنية المكابح المولدة للطاقة بهدف جذب وتخزين الطاقة عند تباطؤ سرعة الشاحنة، ليتم إعادة استخدامها لتعزيز طاقة الشاحنة عند صعود المرتفعات. ويحمل هذا النظام اسم هايليون، وبمقدوره تقليص استخدام الوقود بنسبة تصل حتى 30%، مع توفير نفقات بقيمة 1,300 دولار أمريكي شهرياً.
تأثير عمليات التحول الرقمي
تلعب التقنيات الرقمية دوراً محورياً في تعزيز حماية البيئة في الخدمات اللوجستية. فبالإضافة إلى برمجيات تحسين طرق الشحن وتقنيات المطابقة الرقمية التي تحدثنا عنها سابقاً، تحل التقنيات الرقمية محل الكثير من العمليات الورقية التقليدية في قطاع الخدمات اللوجستية.
وعلى سبيل المثال، تعمل شركة أجيليتي على تطوير تطبيق يتيح لها التعاون مع العملاء لتصميم سلاسل إمداد مُحسّنة يكون تأثيرها البيئي منخفضاً. وتعليقاً على هذا المشروع، قال فرانك كلاري، نائب الرئيس للاستدامة في أجيليتي: "بمقدورنا مساعدة العملاء على تعزيز الوفورات والكفاءة على امتداد مختلف عمليات سلسلة الإمداد".
تغيّر توقعات وسلوكيات المستهلكين
رغم أن شركات التجارة الإلكترونية تتحمل المسؤولية الأكبر تجاه اعتماد الحلول المستدامة، يلعب المستهكلون أيضاً دوراً فعالاً بهذا الإطار. ويتعين على المستهلكين إدراك أن طلبات التوصيل في اليوم ذاته تقود إلى آثار سلبية على البيئة.
وغالباً ما تفرض الجداول الزمنية الضيقة على الشركات تغليف وتوصيل المنتجات بشكل منفصل، بينما تتيح مواعيد التوصيل الأكثر مرونة استخدام تغليف واحد لعدة طلبات وتوصيلها مع بعضها البعض.
لذا يمكن للمستهلكين إتاحة المجال أمام شركات التجارة الإلكترونية لتقديم خدمات أفضل من الناحية البيئية عبر تمديد مهل التوصيل المتوقعة من يوم واحد أو يومين إلى أربعة أو خمسة أيام. ولكن في ظل حقبة هيمنة شركة أمازون، هل سيكون المستهلكون، الذين اعتادوا خيارات التوصيل فائقة السرعة، مستعدين لتقبّل مواعيد التوصيل الأطول التي تقدمها الخيارات الصديقة للبيئة؟
مبادرات مستدامة أخرى في قطاع الخدمات اللوجستية
تماشياً مع توجهات المستهلكين، تتخذ أجيليتي خطوات جريئة لاعتماد المنهجيات الصديقة للبيئة. وتتعاون الشركة مع جهات الشحن بهدف:
- إحداث تخفيض ملموس في انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون
- إعادة ابتكار وتطوير تصاميم ونظم إدارة المستودعات
- استخدام الطاقة الشمسية لتدفئة وتبريد المباني
وكشف استبيان Doodle Pulse المذكور سابقاً أن 3% فقط من المستهلكين أبدوا ثقتهم بأن شركات التجارة الإلكترونية تبذل الجهود اللازمة لتوفير خيارات التوصيل المستدامة، وتعكس هذه النسبة الاعتقاد السائد بضرورة اتخاذ مزيد من الإجراءات، الأمر الذي دفع الشركات للاستجابة بعدة طرق:
أطلقت أمازون مبادرة Shipments Zero الهادفة إلى جعل انبعاثات نصف شحنات الشركة خالية تماماً من الكربون بحلول عام 2030.
أطلقت ebay مقرّين صديقين للبيئة كجزء من جهودها للاعتماد على مصادر الطاقة الكهربائية المتجددة بحلول عام 2025.
خصصت أجيليتي، الرائدة عالمياً في مجال الخدمات اللوجستية، استثمارات مهمة بهدف تعزيز التزامها بممارسات الاستدامة، من خلال الاستثمار بقيمة 35 مليون دولار أمريكي في شركة Queen’s Gambit المتخصصة بتقديم الحلول المستدامة في مجالات الرعاية الصحية والتكنولوجيا الرقمية والمواصلات والنقل.
كما أُدرجت أجيليتي مؤخراً في سلسلة مؤشر FTSE4Good العالمي للاستثمار الأخلاقي، وهو مرجع يستخدمه المستثمرون لتحديد الشركات الملتزمة بصرامة بالممارسات البيئية.
وبالتالي، توجد مؤشرات مشجعة على التزام الشركات الكبيرة. أما بالنسبة للشركات الأصغر حجماً، فبإمكانها تعزيز المزايا البيئية لسلاسل الإمداد عبر تطبيق التغييرات الأصغر حجماً والأقل تكلفة التي قمنا باستعراضها في هذه المقالة. وبجانب ذلك، تتجه شركات التجزئة الكبيرة والصغيرة نحو اختيار شركاء من ذوي الإنجازات الملموسة في دعم أهداف الاستدامة ضمن قطاع الخدمات اللوجستية، بهدف مساعدتها في تحقيق أهدافها البيئية.
الأهمية المحورية - مستقبل القطاع
لم تعد الخدمات اللوجستية المستدامة بمثابة خيار متوافر، بل أصبحت ضرورة لا بد منها. إذ يوجّه المستهلكون انتقادات حادة للشركات التي لا تلتزم بممارسات الاستدامة وسلاسل الإمداد الصديقة للبيئة. وكما أوضحنا في هذه المقالة، يوجد الكثير من الخطوات الي يمكن لجميع الشركات التجارية اتباعها لضمان اعتماد الخدمات اللوجستية المستدامة ضمن مختلف العمليات. وتتمثل المنهجية الأفضل في إنجاز التغييرات المطلوبة بأسرع فرصة ممكنة لتحقيق أثر إيجابي يدوم لأجيال طويلة.